Wednesday, March 11, 2020

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية . شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية . شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية . شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية
( الإمامة ) اسم من أسماء الخلافة ، كما قال في حق نبيه إبراهيم ، صلوات الله عليه : " إني جاعلك للناس إماما " . أي ، خليفة عليهم . وهي إما بواسطة ، أو بلا واسطة . والقسمان ثابتان في هارون ، عليه السلام ، لذلك اختصت بكلمته .
أما الأول ، فلكونه خليفة موسى ، عليه السلام ، كما قال : " اخلفني في قومي " .
وأما الثاني ، فلكونه نبيا رسولا مبعوثا من الحق إلى الخلق بالسيف ، كأخيه موسى ، فقويت نسبة الإمامة إليه ، فكان إماما مطلقا من جانب الحق ، وإماما مقيدا من جانب موسى ، عليه السلام
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( اعلم ، أن وجود هارون ، عليه السلام ، كان من حضرة " الرحموت " بقوله)
أي ، بدليل قوله : ( " ووهبنا له من رحمتنا " . يعنى لموسى " أخاه هارون نبيا " . فكانت
نبوته من حضرت الرحموت . ) أي ، من حضرة ( الرحمة ) . سميت ب‍ ( الرحموت)
مبالغة ، كما يسمى عالم الملائكة ب‍ ( الملكوت ) ، وعالم المجردات ب‍ ( الجبروت ) .
وإنما كانت نبوته من الرحمة ، لأن موسى ، عليه السلام ، كان خشنا في الخلق ، صلبا في الدين ، ولم يكن فصيحا  في النطق .
فطلب من الله أخاه  هارون ، ليكون معه في الدعوة ، فيعينه بالأخلاق الحسنة ، فينجبر موسى بخلقه وفصاحته ويرغب الناس في طاعته ،
كما قال تعالى : " رب اشرح لي صدري ويسر لي  أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي  أشدد به أزرى وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا  بصيرا " .
فكان وجود هارون معه في الدعوة رحمة من الله وإجابة لدعوته .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإنه أكبر من موسى سنا وكان موسى أكبر منه نبوة . ولما كانت نبوة هارون من حضرة الرحمة ، لذلك قال لأخيه موسى : " يا بن أم " . فناداه بأمه لا بأبيه ، إذ كانت الرحمة للأم دون الأب أوفر في الحكم . ) أي ، حكم التعطف والشفقة .
( ولولا تلك الرحمة ) الذاتية في الأم ( ما صبرت على مباشرة التربية . ثم ، قال : " لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ولا تشمت بي الأعداء " . فهذا كله نفس من أنفاس الرحمة . وسبب ذلك ) أي ، الغضب والأخذ باللحية ( عدم التثبت في النظر في ما كان في يديه من الألواح التي ألقاها من يديه . فلو نظر فيها نظر تثبت ، لوجد فيها الهدى والرحمة . ) .

كما قال تعالى : ( "ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ". (
( فـ‍ " الهدى " بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه مما هو هارون برئ منه .
والرحمة بأخيه . ) أي ، ( الهدى ) المذكور . وهو المكتوب فيها كيفية ما وقع من عمل العجل وإضلال السامري لهم وبراءة هارون منه .
و ( الرحمة ) المذكورة هي الرحمة على أخيه . فيكون الخبر محذوفا لوجود القرينة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان ) عطف على قوله ( لوجد ) . أي ، لوجد فيها الهدى والرحمة ، فكان موسى ( لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه ) أي ، على نظر قومه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مع كبره ، وأنه أسن منه ، فكان ذلك من هارون شفقة على موسى ، لأن نبوة هارون من رحمة الله ، فلا يصدر منه إلا مثل هذا . ثم ، قال هارون لموسى : " إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل " . فتجعلني سببا في تفريقهم ، فإن عبادة العجل فرقت بينهم ، فكان منهم من عبده اتباعا للسامري وتقليدا له ، ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك ، فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه . فكان موسى أعلم بالأمر من هارون ، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل . ) أي ، علم موسى ما الذي عبده أصحاب العجل في الحقيقة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لعلمه بأن الله قضى ألا يعبد إلا إياه . ) كما قال : ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ) .
( وما حكم الله بشئ إلا وقع . فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه ) أي ، كان عتب موسى أخاه هارون لأجل إنكاره عبادة العجل ، وعدم اتساع قلبه لذلك.

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن العارف من يرى الحق في كل شئ بل يراه عين كل شئ . فكان موسى يربي هارون تربية علم . ) واعلم ، أن هذا الكلام وإن كان حقا من حيث الولاية والباطن ، لكن لا يصح من حيث النبوة والظاهر .

فإن النبي يجب عليه إنكار العبادة لأرباب الجزئية ، كما يجب عليه إرشاد الأمة إلى الحق لمطلق ، لذلك أنكر جميع الأنبياء عبادة الأصنام وإن كانت مظاهر للهوية الإلهية . فإنكار هارون عبادة العجل من حيث كونه نبيا حق ، إلا أن تكون محمولا على أن موسى ، عليه السلام ، علم الكشف أنه ذهل عن شهود الحق الظاهر في صورة العجل ، فأراد أن ينبهه على ذلك . وهو عين التربية والإرشاد منه .
وإنكاره ، عليه السلام ، على السامري وعجله على بصيرة . فإن إنكار الأنبياء والأولياء لعبادة الأصنام التي هي المظاهر ليس كإنكار المحجوبين ، فإنهم يرون الحق مع كل شئ ، بخلاف
غيرهم ، بل ذلك لتخليصهم عن التقيد بصورة خاصة ومجلى معين ، إذ فيه إنكار باقي المجالي وهو عين الضلال .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإن كان أصغر منه في السن . ولذلك ) أي ، ولأجل أنه كان مربيا لهارون ، عليه السلام .
( لما قال له هارون ما قال ، رجع إلى السامري فقال له : " فما خطبك يا سامري ؟ " ) أي ، ما شأنك وما مرادك ؟ أي لذلك رجع موسى إلى السامري .

فقوله : ( لما قال له هارون ما قال ) جملة اعتراضية ( يعنى فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص ، وصنعك هذا الشيخ من حلي القوم ) وتركك الإله المطلق الذي هو إله العالمين ( حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم ، فإن عيسى يقول لبني إسرائيل : يا بني إسرائيل ، قلب كل إنسان حيث ماله ، فاجعلوا أموالكم في السماء ، تكن قلوبكم في السماء . ).

والأموال السماوية هي العلوم والمعارف والأعمال الصالحة الكاسبة للتجليات الإلهية والسعادات الأبدية .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما سمى "المال"  مالا إلا لكونه بالذات تميل القلوب إليه بالعبادة . فهو المقصود الأعظم المعظم في القلوب لما فيها من الافتقار إليه . ) أي، إلى المال.
( وليس للصور بقاء ، فلا بد من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه . فغلبت عليه الغيرة ، فحرقه ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم نسفا ، وقال له : "أنظر إلى إلهك" . فسماه إلها بطريق التنبيه للتعليم . ) أي ، نبه أنه مظهر من المظاهر ومجلى من مجاليه . ( لما علم أنه بعض المجالي الإلهية "لأحرقنه" . ) أي ، قال : أنظر إلى إلهك لنحرقنه ولننسفنه في اليم نسفا .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فإن حيوانية الإنسان لها التصرف في حيوانية الحيوان ، لكون الله سخرها للإنسان ولا سيما وأصله ) أي ، وأصل العجل ، ( ليس من حيوان ) أي ، ولا سيما في شئ أصله ليس حيوانا ، لأن العجل المعمول من الحلي ما كان حيوانا أصليا .
( فكان ) أي ، العجل . ( أعظم في التسخير ) أي ، في قبول التسخير . ( لأن غير الحيوان ماله إرادة ) حتى يحصل منه الإباءة والامتناع لما يريد الإنسان . ( بل هو بحكم من يتصرف فيه من غير إبائه . ) أي ، امتناع

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما الحيوان فهو ذو إرادة وغرض ، فقد يقع منه الإباءة في بعض التصريف : فإن كان فيه ) أي ، في الحيوان . ( قوة إظهار ذلك الإباء ، ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان . وإن لم يكن له هذه القوة أو يصادف ) غرض الإنسان ( غرض الحيوان انقاد ) الحيوان .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( مذللا لما يريده منه كما ينقاد ) الإنسان ( مثله ) من الأناسي . ( لأمر فيما رفعه الله به . ) ضمير ( رفعه الله به ) عائد إلى ( مثله ) أي ، في شئ رفع الله ذلك المثل به ، كالعلم والجاه والمنصب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( من أجل المال الذي يرجوه منه المعبر عنه ) أي ، عن ذلك المال . ( في بعض الأحوال ب‍ " الأجرة " ) وانقياد الإنسان لمثله ورفع بعضه على بعض منصوص عليه
( في قوله : " رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " فما تسخر له من هو مثله إلا من حيوانيته لا من إنسانيته . ) أي ، لا يسخر الإنسان إنسانا مثله إلا بحسب حيوانيته . فالمسخر هو الإنسانية ، والمتسخر هو الحيوانية ، لا الإنسانية .

( فإن المثلين ضدان ) ، من حيث إنهما لا يجتمعان .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فيسخره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيته ويتسخر له ذلك الآخر إما خوفا ، أو طمعا ، من حيوانيته ، لا من إنسانيته .  لما كان الإنسان لا يتسخر لمثله إلا من جهة نقصانه عنه وطمعه أن ينجبر ذلك النقصان منه - والنقائص للإنسان من جهة حيوانيته التي هي جهة بشريته ، والكمالات من جهة إنسانيته التي هي من جهة ربوبيته - أضاف التسخر إلى الحيوانية والتسخير إلى الإنسانية .
( فما تسخر له من هو مثله . ) أي ، في المرتبة .
( ألا ترى ما بين البهائم من التحريش ؟ لأنها أمثال ، فالمثلان ضدان ، ولذلك قال : " ورفع بعضكم فوق بعض درجات " . )
أي لأجل أن المتماثلين لا يسخر بعضه بعضا ، قال تعالى:"ورفع بعضكم فوق بعض درجات ". ليحصل التفاوت في المراتب ، فيحصل التسخير والتسخر بحسب المراتب والدرجات .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فما هو معه في درجته ) أي ، فليس المتسخر مع المسخر في درجة واحدة ، بل
هو في مرتبة ودرجة أدنى من درجته ( فوقع التسخير من أجل الدرجات قد )   

قال الشيخ رضي الله عنه :  (والتسخير على قسمين : تسخير مراد للمسخر - اسم فاعل - قاهر في تسخيره  لهذا الشخص المسخر ، كتسخير السيد لعبده - وإن كان مثله في الإنسانية - وكتسخير  السلطان لرعاياه - وإن كانوا أمثالا له في الإنسانية - فيسخرهم بالدرجة . والقسم
الآخر تسخير بالحال . كتسخير الرعايا الملك القائم بأمرهم في الذب عنهم وحمايتهم
وقتال من عاداهم وحفظ أموالهم وأنفسهم عليهم . وهذا كله تسخير بالحال
من الرعايا ، يسخرون بذلك مليكهم ) أي ، مالكهم .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويسمى على الحقيقة هذا التسخير تسخير المرتبة . فالمرتبة . ) أي، فمرتبة الرعية .
( حكمت عليه بذلك
. فمن الملوك من سعى لنفسه ) وما عرف أن مرتبة رعيته تسخره في ذلك.
( ومنهم من عرف الأمر : فعلم أنه بالمرتبة في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم وحقهم ، فآجره الله على ذلك أجرة العلماء بالأمر على ما هو عليه . ) أي ، أعطاه الله من جنس ثواب العلماء لعلمه بالمسألة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأجر مثل هذا يكون على الله في كون الله في شؤون عباده . ) أي ، لأن الله هو القائم على شؤون عباده وقضاء حوائجهم ، فإذا قام أحد بذلك لله ، لا لغرض نفسه ، وقع أجره على الله
.
( فالعالم كله مسخر بالحال ) على صيغة الفاعل . ( من لا يمكن أن يطلق عليه أنه مسخر ) على صيغة المفعول . ( قال الله تعالى : "كل يوم هو في شأن " . )
وليس ذلك إلا شؤون عباده . ولا يتوهم أن غيره يسخره تعالى عن ذلك ، بل كل ما يطلق عليه اسم الغير ، فهو من حيث الوجود والحقيقة عين الحق - كما عرفت مرارا - وإن كان من
حيث التقيد والتعين مسمى بالغير . فالحق هو المسخر لنفسه بحسب شؤونه
وتجلياته لا غيره .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل ، كما سلط موسى ، عليه السلام ، عليه حكمة من الله ظاهرة في الوجود ليعبد في كل صورة . وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك ، فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية . )
أي ، عدم تأثير هارون في منعهم عن عبادة العجل وعدم تسلطه عليهم ، كما تسلط موسى عليهم ، كان حكمة من الله ظاهرة في الوجود الكوني ، ليكون معبودا في صور الأكوان كلها . وإن كانت هذه الصور ذاهبة فانية ، كان ذهابها وفناؤها إنما هو بعد التلبس بالألوهية عند عابدها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا ) أي ، ولأجل أنه أراد أن يعبد في كل صورة . ( ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد : إما عبادة تأله ، وإما عبادة تسخير . فلا بد من ذلك لمن عقل . )
أما العبادة بالإلهية ، فكعبادة الأصنام وغير ذلك من الشمس والقمر والكواكب والعجل .
وأما العبادة بالتسخير ، فكما يعبدون الأموال وأصحاب الجاه والمناصب .

وإنما قال : ( فلا بد من ذلك لمن عقل ) لأن التسخير والتسخر واقع بين جميع مراتب الوجود ، ولا يقع الارتباط بين الموجودات إلا بهما ، بل بين الخلق والحق أيضا بهما ، إذ لا بد من الافتقار ، وهو يعطى التسخير والتسخر لمن يعلم الحقائق .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وما عبد شئ من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه ، ولذلك تسمى الحق ) أي ، سمى الحق نفسه ( لنا ب‍ "رفيع الدرجات " ، ولم يقل : رفيع الدرجة . فكثر الدرجات في عين واحدة ، فإنه قضى ألا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة ، أعطت كل درجة مجلي إلهيا عبد فيها . وأعظم مجلي عبد فيه وأعلاه " الهوى " .
كما قال : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) فهو أعظم معبود ، فإنه لا يعبد شئ إلا به ) أي ، بالهوى .
(ولا يعبد هو إلا بذاته . ) أي ، الحق في مرتبة ألوهيته لا يعبد إلا بذاته ، فإنه معبود بالذات لكل ما سواه . وأما في مراتب الصور الكونية ، فليس معبود إلا بواسطة سلطان الهوى على العابد ومحبته في قلب العابد له . فإن جميعها ممكن ليس لأحد منها الوجوب الذاتي المستعبد لغيره بذاته .
قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وفيه أقول :
وحق الهوى أن الهوى سبب الهوى * ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى )
قال ، رضي الله عنه ، في فتوحاته : شاهدت الهوى في بعض المكاشفات
ظاهرا بالألوهية قاعدا على عرشه ، وجميع عبدته حافين عليه واقفين عنده . وما
شاهدت معبودا في الصور الكونية أعظم منه .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله ، كيف تمم في حق من عبد هواه واتخذه إلها . فقال : " وأضله الله على علم " . والضلال الحيرة ، وذلك أنه ) أي ، وذلك القول والتتميم هو أن الحق ( لما رأى هذا العابد ما عبد إلا هواه بانقياده لطاعته )
أي ، بانقياد العباد لطاعة هواه . ( فيما يأمر به من عبادة من عبده من الأشخاص )
جواب ( لما ) قوله فيما بعد : ( فأضله الله على علم ، أي حيره الله على علم ) .
ألا ترى ما أكمل علم الله حيث تمم الكلام هنا بقوله : "وأضله الله على علم " . والضلالة هي الحيرة فيما حير العابد لهواه إلا الله بظهوره وتجليه في الصور الهوائية ومراتبها .
وذلك الإضلال مبنى على علم عظيم حاصل من الله بأسرار تجلياته في تلك الصور وغاياتها . أي ، هذا الإضلال والحيرة ما كان إلا من علم عظيم من الله بمجالي الهوى وأعيان عبدته وطلب استعداداتهم ذلك ليعبد بواسطة الهوى في جميع الصور الوجودية والمراتب الكونية .
فتحير العارفين بكثرة التجليات وتنوع الظهورات ، والمحجوبين بالوقوف فيما عبدوا ، لأنهم يعرفون أن ما عبدوا ليس بإله موجد لهم ، وهو ممكن مثلهم ، ومع ذلك يجدون في بواطنهم
ميلا عظيما إليه بحيث لا يمكنهم الخلاص منه والتعدي عنه ، فيحصل الضلال والحيرة .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حتى إن عبادته لله كانت عن هوى أيضا ، لأنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى ، وهو الإرادة بمحبة ، ما عبد الله ولا آثره على غيره ) أي ، الهوى سلط على نفوس العابدين حتى من يعبد الله أيضا ما يعبده إلا عن هوى ، لأنه لو لم يقع في ذلك الجناب هوى من إرادة الجنة والنجاة من النار والفوز بالدرجات العالية ، ما كان يعبده . كما ذكرنا أبياتا في هذا المعنى :
عبدنا الهوى أيام جهل وإننا  ...  لفي غمرة من سكرنا من شرابه
وعشنا زمانا نعبد الحق للهوى  ...  من الجنة الأعلى وحسن ثوابه
فلما تجلى نوره في قلوبنا  ...  عبدنا رجاء في اللقاء وخطابه
فمرجع أنواع العبودية الهوى  ...  سوى من يكن عبدا لعز جنابه
ويعبده من غير شئ من الهوى  ...  ولا للنوى من ناره وعقابه

وقوله : ( هو الإرادة بمحبة ) تفسير للهوى . أي ، الهوى هو الإرادة النفسانية مع المحبة الإلهية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم واتخذها إلها ، ما اتخذها إلا بالهوى فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه ، ثم ، رأى المعبودات تتنوع في العابدين )
( ثم ) عطف على قوله : ( إنه لما رأى هذا العابد ) . أي ، لما رأى الحق هذا العابد ، ما عبد إلا هواه ، ثم رأى المعبودات الكونية والاعتقادية متنوعة عند العابدين إياها ، أضله الله .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فكل عابد أمرا ما يكفر من يعبد سواه ، والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى ، بل لأحدية الهوى ، فإنه عين واحدة في كل عابد ) لما كان الاتحاد مشعرا بالإثنينية السابقة على الاتحاد ، أضرب عنه فقال : ( بل لأحدية الهوى ) ليفيد أنه حقيقة واحدة لا تكثر فيها ، وهي عين الأحدية الإلهية . ثم ، صرح بقوله : ( فإنه عين واحدة ظاهرة في كل عابد . )
( فأضله الله ) أي ، حيره الله ( على علم  بأن كل عابد ما عبد إلا هواه ولا استعبده  إلا هواه ، سواء صادف ) هواه ( الأمر المشروع ) كالنكاح بأربع والاستمتاع بالجواري . ( أو لم يصادف . ) كتعلق الهوى بمن يملكه غيره .

قيل : إن قوله : ( فأضله الله ) جواب ( لما ) أدخل فيه ( الفاء ) لطول الكلام ، كما مر في أول الكتاب في قوله : ( فاقتضى الأمر جلاء ذلك ) . أي، جلاء مرآة الإنسان وصفاته جهة قابليته.

"" أضاف المحقق :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفص الآدمي : ( لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها ، و إن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كله ، لكونه متصفا بالوجود، و يظهر به سره إليه: فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل و لا تجليه له .
و قد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوة.
و من شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا و يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه، و ما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل و لا يزال. و ما بقي إلا قابل، و القابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس .
فالأمر كله منه، ابتداؤه و انتهاؤه، "و إليه يرجع الأمر كله"، كما ابتدأ منه.
فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة و روح تلك الصورة، و كانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم "بالإنسان الكبير". فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية و الحسية التي في النشأة الإنسانية .أهـ ). ""

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلي للحق يعبد فيه ) أي ، يعبد الحق في ذلك المجلى . فالحق هو المعبود مطلقا ، سواء كان في صورة الجمع ، أو في صورة التفصيل .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولذلك ) أي ، ولأجل أن الحق هو الذي ظهر في ذلك المجلى وعبد .
( سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص بحجر ) أي ، أطلقوا اسم ( الإله ) عليه مع أنه يسمى بحجر ( أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك . هذا اسم الشخصية فيه ) وهذا الاسم إنما هو باعتبار تعين تلك الحقيقة الكلية بالتعينات الجنسية ، ثم النوعية ، ثم الشخصية .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والألوهية مرتبة ) إلهية ( تخيل العابد له ) أي ، لمعبوده . ( أنها مرتبة معبوده الخاص . وهي على الحقيقة مجلي الحق لبصر هذا العابد الخاص المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص ، ) أي ، ومرتبة معبوده هي على الحقيقة مجلي الحق لنظر العابد وبصره ليشاهد الحق ببعض صفاته وأسمائه في ذلك المجلى الخاص .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ولهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة : "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " . مع تسميتهم إياهم "آلهة " ) أي ، ولأجل أنه مجلي إلهي ، قال بعض من عرف وحدة الإله ، ولم يعرف أنه مجلي من مجاليه ، قول من جهل بالأمر : "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله " . الواحد الحقيقي قربا ، ومع ذلك ما سموهم إلا "آلهة " .
وفي بعض النسخ : ( من لم يعرف ) . وهو ظاهر أو قال بعض من عرف أنه مجلي إلهي مقالة من لم يعرف . أي ، عرف وتناكر تشبها بالجهال . ونسخة ( من لم يعرف ) تؤيد الأول .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( حتى قالوا : " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا الشئ عجاب " . فما أنكروه ، بل تعجبوا من ذلك ، فإنهم وقفوا مع كثرة الصور ونسبة الألوهية لها . )
( اللام ) في ( لها ) بمعنى ( إلى ) . أي ، سموا المجالي آلهة تعجبوا وقالوا : أجعل الآلهة
وهي المجالي والمعبودات المتعددة إلها واحدا قد فما أنكروا الإله ، وإنما أنكروا وحدته
بقولهم : ( إن هذا لشئ عجاب ) . لأنهم كانوا واقفين مع المجالي المتكثرة بحسب الصورة جاعلين نسبة الألوهية إليها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد ، يعرف ولا يشهد ) على صيغة المبنى للمفعول .
( بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى".) أي ، دعاهم الرسول إلى إله واحد معروف غير مشهود عندهم بشهادة أنهم أثبتوا إلها واعتقدوه ، وجعلوا الأصنام المشهورة مقربات إلى الله ، فالإله معلوم لهم ، ثابت عندهم ، غير مشهود بنظرهم ( لعلمهم بأن تلك الصور حجارة ، ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله : "قل سموهم " فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة . ) أي ، الأسماء الكونية ، كالحجر
والكوكب وغيرهما .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه ) وهم الذين يعرفون وحدة الحق وظهوره في مجالي متعددة ( فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور ) أي ، ينكرون المعبودات المتعينة مع علمهم بأنها مجال الحق .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت بحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به سموا مؤمنين . )
أي ، ولأن العلم اللدني الحاصل لهم يعطيهم أن يكونوا بحكم رسولهم ونبيهم لوجوب متابعة النبي ، والنبوة ما يقتضى إلا الإنكار عليهم ، فأنكروا ذلك ، وبذلك الإنكار وبالاتباع للأنبياء سموا مؤمنين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فهم عباد الوقت ) أي ، فالعارفون عباد الله بحسب الوقت ، وما يعطيه الحق بتجلي اسم ( الدهر ) في كل حين في صور أنبيائهم .
أو العابدون للأصنام هم عباد الله بحكم أوقاتهم التي يتجلى لهم الحق فيها ( مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها ) أي ، مع أن العارفين يعلمون أن العابدين للمجالي ما عبدوا الأصنام لأجل أعيانها المتكثرة المسماة بالأسماء الكونية . هذا على الأول . وعلى الثاني ، أي مع علم العابدين بأنهم ما عبدوها لأجل أعيانها ، بل لأجل أنها آلهة . والثاني أنسب .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم . ) أي ، عباد الأصنام إنما عبدوا الله في تلك المجالي بسبب تسلط سلطان التجلي الذي أدركه العابدون من المعبودين .
فقوله : ( بحكم ) متعلق ب‍ ( عبدوا الله ) . وإن جعلنا فاعل ( عرفوه ) عائدا إلى ( العارفين ) ، وضمير ( منهم ) إلى ( العابدين ) ، فمعناه : مع علمهم بحكم سلطان التجلي الذي عرفوه من العابدين أنهم ما عبدوا تلك الصور أعيانها . ف‍ ( الباء ) يتعلق ب‍ ( العلم ) .
( وجهله المنكر الذي لا علم له بما تجلى ) أي ، وجهله المؤمن المنكر الذي لا علم له بأن الحق يتجلى بالصور الكونية . ( ويستره العارف المكمل من نبي ورسول ووارث عنهم ) عطف على قوله : ( وجهله ) . وفي بعض النسخ : ( ويستره ) . أي ، العارف يعرفه ويستره .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فأمرهم ) أي ، أمر العارف المكمل المحجوبين . ( بالانتزاح ) أي ، الاجتناب .
( عن تلك الصور لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعا للرسول ، طمعا في محبة الله إياهم بقوله : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ) .
فدعا ) الرسول . "إلى إله يصمد إليه. " يحتاج ويفتقر إليه وهو لا يحتاج ولا يفتقر إلى غيره .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( ويعلم من حيث الجملة ) أي ، يعلم إجمالا أنه إله خالق لما سواه ، ذو الجلال والإكرام.  ( ولا يشهد ذاته ، كما قال : "لا تدركه الأبصار بل هو يدرك الأبصار" . للطفه وسريانه في أعيان الأشياء . ) تعليل للحكمين .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا تدركه الأبصار كما أنها ) أي ، كما أن الأبصار . ( لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها وصورها الظاهرة . ) كما أنها لا تدرك الأرواح المدبرة أشباحها المثالية والصور الظاهرة الحسية .
وفي بعض النسخ : ( كما أنها لا تدركه أرواحها المدبرة ) . فضمير ( أنها ) للقصة . كقوله تعالى : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) . وفاعل ( لا تدركه ) ( الأرواح ) ، وضمير ( أرواحها ) للأبصار .
( فهو "اللطيف" ) عن إدراك البصائر والأبصار . ( الخبير ) على الضمائر والأسرار .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( والخبرة ذوق ، والذوق تجل ، والتجلي في الصور . فلا بد منها ولا بد منه )  أي ، الخبرة إنما تحصل بالذوق ، والذوق بالتجلي ، والتجلي يعطى الظهور في صور المظاهر ، فلا بد من الصور التي يتجلى الحق فيها ، ولا بد من الحق المتجلي بها .

قال الشيخ رضي الله عنه :  ( فلا بد أن يعبده من رآه بهواه . إن فهمت . وعلى الله قصد السبيل . ) أي ، وإذا كان لا بد من المجالي والمتجلى فيها ، فلا بد من الناظر إليها والعابد لها بحكم سريان المحبة في جميع الأشياء بسريان الهوية الإلهية ، فإنه إنما يتجلى بها ليعبد في جميع المراتب الوجودية ، إن فهمت ما ذكرناه من قبل .
وعلى الله إيضاح الطريق وبيان التحقيق .
والله الهادي .
.
واتساب

No comments:

Post a Comment